المدخل | التعليق  الاسبوع  | الجديد في الاتجاهات  | افتتاحيات الصحف  | الاتصال بنا  | اشارات  | مقالات عبدالاله البياتي 

المعطيات الجيوبوليتيكية في سياسات العراق
في علاقات العراق مع الدول المجاورة ،لا ينبغي ،ولم يكن ينبغي، ان تصاغ وتمارس سياسة حكومة العراق انطلاقا من نزعات واهواء وعصبيات ذاتية وانما انطلاقا من البحث عن وسائل تحقيق الامن والاستقرار في كل المنطقة ووسائل تبادل المنافع عن طريق تشجيع انتقال الرساميل والبضائع والخدمات والخبرات والاشخاص.ولا ينبغي ،ولم يكن ينبغي، ان تكون سياسة القطيعة والعنف والحروب والصدام هي الوسيلة لحل الخلافات والمشاكل العالقة بين العراق وجيرانه وانما ان يكون الحوار والتفاوض والتحكيم واحترام الحقوق المشروعة لكل بلد هو السبيل لتحقيق التنمية والتطور والرخاء في كل البلدان.
فباعتقادنا ان لا مبرر لخوض الحرب ضد اي من الدول المجاورة ان لم تشرع بعدوان يستهدف احتلال العراق او جزء من اراضيه بشكل دائم ،ذلك لان اي صراع او حرب تسبب الكثير من التضحيات والخسائر لا يمكن تبريرها ان لم تكن للدفاع عن الوطن .ونحن نعتقد ان العراق بحكم موقعه الجغرافي وتركيبه الاجتماعي وعلاقاته التاريخية والثقافية ينبغي ان يجعل البحث عن سلام دائم مع كل الدول المجاورة هدفا اساسيا في سياساته. ولقد علمتنا التجارب ان الحروب والصراعات مع الدول المجاورة تمزق جبهة العراق الداخلية وتحول اراضيه الى مسرح للصراع ان لم نقل انها تهدد وحدة وسلامة اراضيه.وقد علمتنا كذلك ان الدول الكبرى هي المستفيد الوحيد من هذه الصراعات والحروب. فالدول الكبرى وهي التي تسيطر حتى الان على مجلس الامن واجهزة الاعلام والمال وصناعة وتجارة الاسلحة هي التي تتحكم في مسيرة ووجهة الصراعات بين الدول الصغيرة والى حد بعيد نتائجها .كما علمتنا ان حالة الصراع والحرب تدفع ال عسكرة الدولة والمجتمع فتتحول كل صغيرة وكبيرة الى مسئلة امنية وحربية فتحرم اجيال من الحياة الانسانية الطبيعية وتهدر الاموال على الحرب ويفقد البلد الاستقرار والامن الضروريان لكل نشاط اقتصادي او اجتماعي او ثقافي سليم.
ولذلك فأن تأكيدنا على ضرورة انفتاح العراق على بلدان حوض الخليج واشراكه ومشاركته في مشاريع التنمية والتعاون واجراءات تحقيق الامن والاستقرار لا يهدف ال ان يحصر العراق توجهه نحو الخليج ولا ينطلق من الاعتقاد بان التعاون في الخليج هو اكثر اهمية بالنسبة للعراق من التعاون والانفتاح وتبادل المنافع مع الاردن وسوريا وتركيا،ذلك لاننا نعتقد ان من مصلحة العراق اقامة علاقات سلم وتعاون مع كل الدول المجاورة. فبالاضافة الى المصالح المشتركة الثنائية التي تحتم انفتاح وتعاون العراق مع كل البلدان المجاورة نحن نعتقد ان موقع العراق الوسيط يجعل من قطيعة العراق مع اي بلد مجاور عائقا امام تعاونه مع كل البلدان الاخرى واضرارا بمصالحه ومصالح البلدان الاخرى.
فالكل يعلم ان العراق هو معبر ايران نحو سوريا والاردن والبحر الابيض المتوسط وانه معبرا لسوريا والاردن نحو ايران وحوض الخليج. كما ان العراق هو معبر تركيا نحو الخليج وهو معبر بلدان الخليج نحو تركيا ، الامر الذي يجعل استقرار وامن العراق وانفتاحه نحو كل جيرانه هو ضرورة قصوى لكل البلدان المجاورة ويجعل قطيعة العراق مع اي من هذه البلدان هو امر يمنع استفادة العراق من موقعه الوسيط كما يمنع تطور التعاون الاقليمي في مجالات البنية التحتية وفي تطوير الصناعات والزراعة والتجارة البينية الضروري لتحقيق التنمية والتطور. وفي الواقع ان اية سياسة حكيمة في العراق ينبغي ان تنطلق من فهم صحيح لمعطيات وروابط وضع العراق الجيوبوليتيكي .باعتقادنا ان حقائق الجغرافية والتاريخ والثقافة والثروات الطبيعية وحاجيات التنمية تثبت ان العراق ينبغي ان يؤكد في سياساته ضرورة الانتماء العربي للعراق وضرورة تحقيق اعلى اشكال التعاون مع كل من ايران وتركيا.
وباعتقادنا ان هاتين الضرورتين لا تناقض بينهما.ولقد ادركت حكومات العراق الاولى بعد الاستقلال هذه الحقيقة فعمدت الى عقد معاهدات صداقة وحسن جوار مع ايران وتركيا وعقدت معاهدة تعاون ودفاع مشترك مع السعودية ،رغم كل الخلافات التي كانت قائمة بين العائلة السعودية والعائلة الهاشمية ،وتضامنت مع الحكومات العربية الاخرى في مواجهة الصهيونية في مؤتمر لندن 1936، واعتبرت ان من واجبها مساعدة سوريا ولبنان للحصول على الاستقلال من فرنسا وساهمت في تشكيل الجامعة العربية وحاربت في فلسطين الى جانب الدول العربية الاخرى.ولم يختل هذا التوازن في علاقات العراق مع الدول المجاورة الا مع بدء الحرب الباردة وانضمام العراق الى حلف بغداد الذي كان انحيازا الى جانب اسرائيل ضد الدول العربية الاخرى التي كانت تنادي بسياسة الحياد الايجابي والنضال ضد الصهيونية.
وليس العراق بلدا عربيا لان كل سكانه هم من العرب .كما ان كون العراق بلدا عربيا لا يعني ان حكومة العراق منحصرة وقاصرة على العرب. وبالطبع فان انتماء العراق العربي لا يعني العداء مع الاقوام الاخرى سواء في العراق او في البلدان الاخرى .وهو لا يعني ان عرب العراق يريدون ان يخضع العراق لقطر اخر حتى ولو كان عربيا ولا يعني ان شعب العراق سيقود الاقطار العربية الاخرى او يلحقها به او يضمها اليه.فعروبة العراق وانتمائه العربي لم تكن يوما، الا في ذهن البعض ،امرا عنصريا او طائفيا او عدوانيا.فالانتماء العربي ينطلق من حقيقة ان العراق مرتبط بالبلدان العربية بوحدة التاريخ والثقافة واللغة والمصلحة والمستقبل والمصير ولذا فان عليه ان ياخذ ذلك في نظر الاعتبار عند تحديد سياساته التي تهدف تحقيق مصالح شعبه.وهي تعني في الجوهر تحقيق اعلى اشكال التعاون مع البلدان العربية الاخرى من اجل التطور المتكافئ والمتداخل والمتكامل لكل الاقطار العربية.وبهذا المعنى فان تمتع الاكراد بالحكم الذاتي ، او الشيعة والسنة بحرياتهم الدينية ، او التركمان او الاثوريين بحقوقهم الثقافية اوحتى اقامة نظام سياسي فيديرالي موحد في العراق لن يلغي الانتماء العربي للعراق، ذلك لان انتماء العراق العربي هو حقيقة جيوبوليتيكية ليس من السهولة حجبها او تغييرها.
ويلعب التعاون بين سوريا والعراق ،كما هو الامر مع بلدان الخليج العربية ، اهمية خاصة في انتماء العراق العربي فحوض الرافدين الذي يجمعهما والمصالح والحاجات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتشابهة والمعطيات الجيوبوليتيكية المتكاملة تجعل من تعاونهما في كل المجالات ضرورة قصوى لشعبي البلدين خصوصا وان ذلك لا يتناقض مع تعاون كل بلد مع البلدان الاخرى .اما الخلافات التي ادت الى القطيعة منذ 25عاما بين الحكومات فهي خلافات ذاتية لا علاقة لها بالمصالح الاستراتيجية الوطنية والقومية.
وكذلك فان من مصلحة العراق اقامة اعلى اشكال التعاون مع كل من تركيا وايران والابتعاد عن الانحياز الى اي منهما في اي صراع عسكري او اقتصادي او ثقافي او سياسي بينهما والانطلاق من المصالح المشتركة مع كل منهما بل والعمل على تخفيف الصراع بينهما في حالة نشوبه. فالتاريخ يعلمنا ان العراق قد كان مسرحا للصراع بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية ولم يكسب من ذلك سوى الخراب مما يفرض على ابناء العراق ان يمتنعوا عن المشاركة في صراعات ايران وتركيا ان ارادوا خدمة شعب العراق.
ان تأكيد ايران على هويتها الدينية هي امر يخص شعب ايران وتأكيد تركيا على هويتها العلمانية هي امر يخص شعب تركيا.ولا ينبغي ان يكون تأكيد الشعبين على هذه الهوية او رفضهما لهذه الهوية عائقا امام التعاون مع اي منهما فالنظام السياسي في تركيا وايران ،كما في العراق، لن يقرره الا شعب كل بلد والمشاريع المشتركة بين هذه البلدان ،و التي تهدف الى تحقيق التطور والرخاء للشعوب، لا ينبغي ان تتوقف على طبيعة الانظمة السياسية فيها. وحتى مشاكل الاقليات العربية او الكردية او التركمانية في البلدان الثلاثة ينبغي ان لا تكون سببا للصراع فالاحرى بكل بلد ان يحل مشاكل الاقليات في بلده ويؤمن لها حقوقها الثقافية والديموقراطية قبل ان يتظاهر بالدفاع عن الاقليات في البلدان الاخرى.
ولكن بعض التيارات العنصرية او الطائفية ترى في وجود القوميات او الطوائف الاخرىفي العراق خطرا على العراق وتبرر بذلك الحروب والصراعات في داخل العراق او مع الدول الاخرى .في الواقع نحن لا نعرف ،الا افرادا قلائل ،من بين التيارات السياسية او الاجتماعية او الثقافية العراقية من لا يؤكد ولائه الوطني العراقي اومن يريد ان تأتي دولة اخرى لحكم العراق والهيمنة على مقدراته.ولن نأت بجديد اذا قلنا، اذ نحن نكرر ذلك منذ اربعين سنة، ان سيادة الديموقراطية وحقوق الانسان هي الطريق الانجع والامثل لتجسيد الوحدة الوطنية والغاء اسباب التمزق والانقسام وعزل التيارات الموالية للاجنبي
اما طريق الاضطهاد القومي والديني وطريق الحروب والصراعات مع الدول الاخرى فانه لا يحمل سوى خلخلة الوحدة الوطنية وتقديم التضحيات البشرية وهدر الاموال وغياب الاستقرار الضروري لاي تطور او تطوير. من الجهة الاخرى فان تعاطف بعض العراقيين مع دول اخرى، ان لم يكن ولاء سياسيا اي الانخراط في اجهزتها والائتمار بامرها ، يشكل امر ا طبيعيا يغني العراق ويوسع اشعاعه فالعراق كان دائما ،كما هي بغداد ،مركزا لتفاعل الحضارات والثقافات والافكار.لقد كان ذلك صحيحا في زمن العباسيين ولا زال ذلك صحيحا حتى الان. ويعتقد البعض ان تقدم تركيا او ايران وتطورهما الاقتصادي والاجتماعي والسياسي هو خطر على العراق.وبرأينا ان ذلك ليس الا نظرة سطحية وجاهلة لعلاقات العراق مع هذين البلدين ولقوانين التطور بين البلدان المتجاورة فواقع الامر يبين انه كلما تطورت ايران او تركيا وازداد رخائها كلما احتاجت الى عراق يتمتع بالاستقرار والرخاء لان هذا الرخاء يشكل قوة شرائية لانتاجهما ومصدرا لعوامل الانتاج فيهما.
ومن الواضح انه اذا كان العراق يحتاج الى المياه من تركيا وايران ،اذ انه يحصل على 35بالمئة من مياهه من ايران و 45بالمئة من تركيا ،فان تركيا احوج الى النفط العراقي لتطوير اقتصادياتها لما يمكن ان يلعبه ذلك في تطوير الصناعات النفطية والبتروكيمياوية فيها .كما ان ايران بحاجة الى شبكة مواصلات كفوءة في العراق تربط ايران بالبحر الابيض المتوسط وتلعب دورا هاما في تطوير تجارتها.
وقد يبدو ان انظمام تركيا الى السوق الاوربية المشتركة هو خطر على العراق والبلدان العربية .نحن نعتقد عكس ذلك.ان انظمام تركيا للاتحاد الاوروبي ،كما انه يمكن ان يلعب دورا هاما في لجم الاحلام الامبراطورية لبعض الجهات التركية ، فانه كذلك يمكن ان يكون عاملا ،من خلال تركيا ،في تقريب اوروبا من العراق وبذلك احد وسائل تعاون العراق مع اوروبا .
نحن نعرف ان خلافات واختلافات ومشاكل عالقة بين العراق وايران وبين العراق وتركيا لا زالت تنتظر الحل ولكن حلها لن يتم الا عن طريق التفاوض والحوار وتبادل المنافع بشكل سلمي وحضاري .ونحن نعرف ان في كل من ايران وتركيا لا زالت هناك نزعات امبراطورية او شاهنشاهية ولكن تطور الديموقراطية في هذين البلدين و اهتمام حكومتيهما بالتطور والتنمية يجعل من الاسهل عزل هذه الاتجاهات واقناع الحكومات ان التعاون على اساس تبادل المنافع هو اقل كلفة من الصراع.
ولكننا ضد القول بان الفرس والتركمان والعرب هم اقوام متعادية لانه قول يتناسي ان هذه الاقوام تجمعها منذ زمن بعيد الاخوة الاسلامية وانها بنت بشكل مشترك حضارة الاسلام ومجده.فعلى اكتاف الفرس والعرب بنيت الدولة العباسية وعلى اكتاف العرب والسلاجقة توحد المشرق العربي للانتصار على الصليبييين .وفي العصر الحديث ومنذ استقلال العراق في الثلاثينيات حُلت اهم مشاكل الحدود بين تركيا والعراق وايران والعراق في الثلاثينات ولم تُثار منذ ذلك الحين الا مشكلة شط العرب بين العراق وايران التي نعتقد ان حلها في حد ذاتها لم يكن يحتاج الى حرب تستمر ثمان سنوات وانما الى اقامة شركة وادارة مشتركة بين البلدين تدير وتطور الملاحة في النهر. وازاء اعتقاد البعض ان تحويل العراق الى قلعة محاطة بستار حديدي تحارب الاعداء من كل جانب هو الدليل على عظمة العراق،نحن نعتقد ان هذا النوع من العظمة قد يرضي مشاعر بعض القادة ولكن عظمة العراق الحقيقية هي في حرية ابنائه وسعادتهم ورخائهم وفي تحويل العراق الى بلد ديموقراطي مستقر مسالم مع اخوته وجيرانه، منصرف الى تطوير اقتصاده وعلمه وثقافته، متضامن مع الاشقاء في الدفاع عن المصالح والحقوق الوطنية والقومية. اما القائلين بهوية عراقية خالصة تنكر الانتماء العربي للعراق وتخفي التنوع القومي والديني فيه فانهم يريدون ان يتحول العراق الى بئر من النفط يباع ويشرى في السوق الراسمالية العالمية معتقدين ان بامكان العراق اقامة علاقات اممية مع روسيا او امريكا او اسرائيل قافزا على علاقاته الاقليمية الحية والواقعية وهم في نهاية الامر سيجدون انفسهم في جمهورية بلا جماهير ، كما وجدت جمهورية العراق الخالدة في الماضي نفسها، جمهورية تضطهد التيار القومي وتحارب الاكراد وتستفز المسلمين ولا تتمتع برضى اليساريين و الليراليين.
ان التأكيد على انتماء العراق العربي وضرورة تحقيق تعاون متوازن مع كل من ايران وتركيا هما وجهان لسياسة واحدة هدفها تحقيق الاستقرار والامن والرخاء في العراق نابعة من احترام خصائص العراق الجيوبوليتيكية ممتنعة عن الانخراط في مغامرات سياسية او عسكرية ، التي هي في اغلب الاحوال تنطلق من اهواء وعصبيات ذاتية، تطلب من شعب العراق ما لا يستطيع تحمله وتهدر جهوده وطاقاته كما حصل في الحروب مع الاكراد و الحرب مع ايران واحتلال الكويت والقطيعة مع سوريا.
لذلك فان مطالبتنا ودعوتنا كل الدول المجاورة للعراق وكل القوى السياسية العراقية الى العمل منذ الان على رفع الحصار عن العراق وايقاف العدوان الامريكي-البريطاني عليه ، مهما كانت خلافاتهم مع الحكومة العراقية ،ينطلق من اعتقادنا ان خروج العراق من محنته الحالية هو ليس فقط خدمة لشعب العراق وانما كذلك خدمة لكل شعوب المنطقة بغض النظر عن الحكومات التي تحكمها وهو تلبية للحاجات والمتطلبات الاستراتيجية لكل الدول العربية والاسلامية لان استمرار الحصار على العراق هو كذلك استمرار للحصار ضد كل الدول المجاورة له وخلق لعقبات اصطناعية امام نموها وتطورها مما لا يستفيد منه الا الدول الاجنبية.
ومع ذلك فان هذه الدعوة لا تخفي علينا الدور الذي ينبغي ان تلعبه حكومة العراق والسياسة التي ينبغي ان تنتهجها ،الان وفي المستقبل ، لتوفير كل الشروط الضرورية لقيام علاقات تعاون واخوة مع كل الدول المجاورة وعلى الاخص نبذ سياسات العنف والقوة او التهديد باستعمال العنف والقوة التي انتهجتها طويلا في تعاملها مع الاخرين والتي ما زالت تهدد بانتهاجها رغم الفشل الذي الت اليه والماسي التي حملتها للعراق والمنطقة ،هذه السياسات التي حولت حكومة العراق الى عقبة امام امن واستقرار ورخاء العراق والمنطقة.
عبدالاله البياتي
باريس-4/4/2000
4

نشر في جريدة الوفاق