المدخل | التعليق  الاسبوع  | الجديد في الاتجاهات  | افتتاحيات الصحف  | الاتصال بنا  | اشارات  | مقالات عبدالاله البياتي 

الخروج من المحنة
لا شك ان رفع الحصار المفروض على العراق وبناء دولة مؤسسات ديموقراطية هما مهمتان متلازمتان لا يمكن لشعب العراق والوطنيين العراقيين تقديم او تفضيل احدهما على الاخرى.فانكانت المهمة الانية الاكثر الحاحا التي ينبغي ان تتظافر من اجلها كل الجهود الوطنية هي رفع الحصار وايقاف العدوان الامريكي البريطاني ،فان انجاز هذه المهمة لن يزيل كل اسباب الازمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يواجهها العراق والتي كان احتلال الكويت وما ترتب عليه من نتائج تعبيرا عنها وسببا في تفاقمها .
برأينا ان احتلال الكويت ذاته لم يكن ليحدث لو ان الية عمل الدولة لم تكن قد اصبحت منذ نهاية السبعينات الية دولة القائد بدل ان تكون دولة المؤسسات كغيرها من دول العالم الحديثة اذ كيف يمكن ان تنصح المؤسسة العسكرية ، اذا كان لها دور في تحديد وتحليل القدرات العسكرية ، حكومة البلد ان تدخل معركة حربية مع تحالف من ثلاثين دولة بقيادة الولايات المتحدة؟. وكيف يمكن لخبراء الاقتصاد اذا كان لهم دور في دراسة التوقعات الاقتصادية ان العراق قادر على مواجهة العقوبات الاقتصادية بدون اضرار عميقة وهو الذي يعتمد على نفس الدول التي يريد محاربتها في اقتصادياته؟.وكيف يمكن لمؤسسات ذات خبرة وحكمة ان لا ترى ان احتلال الكويت سيمزق النظام العربي والمنطقة وان شجب الحصار من قبل الجماهير العربية لن يمنع الولايات المتحدة وحلفائها من مواصلة الحصار والعدوان لسنوات عديدة؟

ولعل المهمة الاصعب امام العراق، بعد رفع الحصار المفروض عليه، هي تحقيق وضع اقتصادي طبيعي توظف فيه الموارد والطاقات لاعادة اعمار البلد والخروج من المحنة التي يعيشها ابناء العراق بمرارة.
ان هذه المهمة تتطلب البحث عن وتشخيص السياسات الضرورية والممكنة لمعالجة الصعوبات والمشاكل بجو من الحرية والالتزام الوطني بمستقبل العراق وشعبه.ولكن تعتيما مقصودا يجري في هذا المجال من قبل اطراف متعددة هدفه معالجة مسائل جوهرية كقضية الديون المتراكمة وقضايا الصناعة النفطية والعلاقات مع الدول المجاورة والمشاكل القومية والطائفية وشكل وتركيب الحكم من خلال عقد الصفقات في الكواليس ودون مشاركة المواطنين والراي العام واخفاء السياسات التي يراد تنفيذها في المستقبل او تأجيل البحث فيها.فاذا كانت الحكومة العراقية ترفض مثل هذا البحث لانه سيكشف مواطن الخلل في توجهاتها والية عملها مكتفية بترديد نظرية الحزب القائد والرئيس القائد المنتصر التي كانت سببا رئيسيا في نجاح الولايات المتحدة وحلفائها في تنفيذ سياساتها ازاء شعب العراق، فان الولايات المتحدة والموالين لها يخفون سياساتهم المستقبلية التي لاتريد الخير لشعب العراق خلف شعارات تحطيم اسلحة الدمار الشامل ومحاكمة صدام حسين.
في الواقع ان العراق في وضع بالغ السوء لا تنفع الدعليات الاعلامية عن الانتصار في اخفائه و ابرز ملامح هذا الوضع هي:
- ان العراق مثقل بالديون والقيود نتيجة الحروب المتعددة التي خاضها والحصار الطويل الذي تعرض له
- ان اعادة الاعمار تتطلب موارد وطاقات استثنائية فلقد دمرت الولايات المتحدة جوانب عدة من البنية التحتية الاقتضادية وهدمت قدرات انتاجية عديدة ضمن مخطط متكامل يستهدف تحطيم القدرات الاقتصادية العراقية وتكبيل العراق بالقيود والاعباء المالية والاقتصادية والسياسية
- في ظل غياب الديموقراطية وانهيار الدولة وضعف الحكومة وتركيزها على امنها ، اصبحت المؤسسات القادرة على توجيه المال العام لخدمة المصلحة العامة شبه معدومة او غائبة . فالرشوة والمحسوبية والسرقة و الاثراء الشخصي على حساب المصلحة العامة باتت امرا طبيعيا في اجهزة الدولة واصبحت المضاربة والربح السريع باية وسيلة ، الطابع العام للنشاط الاقتصادي مما يقلل فرص نجاح اية سياسة هادفة
- لقد افرغت الهجرة العراق من قواه الشابة الحية وخصوصا من ابناء الطبقة الوسطى وهي قوى ضرورية لنقل التراث الحضاري والتكنيكي من جيل لاخر
- بسبب الحصار استنفذ العراق الكثير من احتياطياته وفقدت الدولة القدرة على تقديم الخدمات الاساسية وفقد العراق سنوات عدة في مجال تأهيل الكادر العلمي والتكنيكي وتخلف عن مواكبة التطور الاقليمي والعالمي مما يقلل الكفاءة العامة للاقتصاد العراقي
- ان التركيب الاقتصادي الذي كان سائدا قيل احتلال الكويت، والمتمثل بالاساس في زيادة صادرات النفط لصرف الواردات على الصناعات العسكرية والتسلح وعلى الواردات الاستهلاكية السريعة الاندثار، ليس فقط انه قد هدر المال العام وانما كذلك لم يعد طريقا يمكن ان يؤمن مهمة اعادة الاعمار مما يتطلب تكييفا عميقا للاقتصاد يقلل الى اقل حد المصروفات العسكرية والامنية من جهة ويمكن السيطرة على نمو الاستهلاك وصب معظم الاستثمار في النشاطات المدنية المنتجة من جهة اخرى
- ان العراق كبلد نفطي دخل معارك حربية مع ثلاث بلدان نفطية مجاورة يحتاج الى مضاعفة الجهود لاعادة التنسيق والتعاون مع الدول المنتجة الاخرى في سعيه للحصول على الموارد الضرورية لاعادة اعماره من تصدير النفط. باختصار اصبح على العراق، وفي ظل ظروف صعبة وامكانيات محدودة، ان يوجه موارده المتوفرة في ثلاث اتجاهات في ان واحد: دفع الديون؛ الاستثمار لاعادة الاعمار ومواكبة التطور؛ تلبية الحاجات الاستهلاكية الضرورية.
باعتقادنا ان اساس كل تطور او تقدم في العراق هو محاولة بناء اقتصاد قوي منفتح بدون ان يكون خاضعا لمصالح وتقلبات ومتطلبات حركة الرساميل العالمية وخصوصا المالية منها .وباعتقادنا اننا كبلد نفطي يصدر للسوق العالمية ويستمد موارده المالية من ذلك لا يستطيع اتباع نموذج كمبوديا بول بوت المنغلق لان ذلك سيكون في احسن الاحوال انتحارا بطيئا لا مبرر له اقتصاديا كما لا يستطيع اتباع نموذج النمور الاسيوية التي اخضعت اقتصادها كليا للرساميل المالية العالمية ودفعت ثمنا باهضا نتيجة ذلك.ان كل فرصتنا في ،وقدرتنا على التطور ،هو الاستفادة من الموارد النفطية المالية لتقليل اعتماد الاقتصاد العراقي على هذه الموارد. واول شروط هذا التطور هو اطلاق الاستثمار المنتج والانتاج في الداخل ومضاعفة الجهود للتخلص من الديون الخارجية وتقليل اللجوء الى قروض الدول والمؤسسات الاجنبية التي تستخدمها الرأسمالية العالمية ومؤسساتها لتوجيه اقتصاديات بلدان العالم الثالث حسب مصالحها وتصوراتها بالانطلاق من حقيقة ان عراقا ديموقراطيا مستقرا مسالما يملك قوة شرائية عالية وقادرا على تأمين ارباح للاستثمارات سيلقى ترحيب الجميع في الدول المجاورة خصوصا والدول العربية والاسلامية و ابناء الجالية العراقية والعربية في الخارج عموما.وعلى اساس من ذلك ضمان الغاء التعويضات التي فرضت ظلما على العراق ومحاولة الغاء ما يمكن الغاؤه من ديون وتحويل البعض الاخر الى استثمارات في الداخل مع ضمان تحويل ارباحها الى الخارج وتعبئة ابناء الجالية العراقية والعرب للمساهمة في اعادة اعمار العراق وجدولة ما تبقى من ديون و اطفائها باسرع ما يمكن

اذا كانت مهمة التغلب على الصعوبات الاقتصادية هي المهمة الاصعب فان النجاح في تحقيقها، بل ومجرد الشروع في معالجتها، يتطلب توفر ثلاثة شروط في حياة الدولة العراقية والعراقيين بدونها يصبح الكلام عن اعادة الاعمار مجرد لغو وهراء ان اول هذه الشروط هو تمتع العراق بسلام دائم مع الدول المجاورة للعراق، او على الاقل فترة تلريخية طويلة من السلام مع الدول المجاورة ، قائم على الانفتاح والتعاون وتبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة وتعزيز روابط التضامن والاخوة وفي هذا المجال على كل الوطنيين العراقيين ان يتذكروا ان تطورات هامة تجري في البلدان المجاورة وان الانعزال عنها باسم خلافات وصراعات مؤقتة هو امر ستنبع عنه اثار تاريخية هائلة ان لم يسرع العراق لان يكون طرفا مشاركا فيها:
الاول هو شروع البلدان العربية في عقد الاتفاقات الاقتصادية مع الاتحاد الاوروبي
الثاني هو تطور التعاون والتكامل بين بلدان الخليج العربية او بين بلدان الخليج العربية وايران
الثالث هو مشروع السوق العربية المشتركة
الرابع هو التكتل الاقتصادي الاسلامي
الخامس هو دخول البلدان العربية منظمة التجارة العالمية
ان اول مخاطر انخراط الدول العربية في ارتباطات منفردة ومختلفة مع الكتل الاقتصادية القائمة او مشاريع الكتل الاقتصادية العربية والاسلامية هو ان هذه الارتباطات ستخلق تراكيب اقتصادية متناقضة و متضاربة ستعمق واقع التجزئة العربي وتمنع التكامل الاقتصادي الضروري لتطور ووحدة البلدان العربية

الشرط الثاني للتغلب على الصعوبات الاقتصادية هو تثبيت دعائم الوحدة الوطنية واحترام ضوابط العيش المشترك.فالعراق من جهة هو وحدة اقتصادية-اجتماعية مترابطة منذ فجر التاريخ وحتى الان .ومن الجهة الاجرى جعلت جغرافية وتاريخ العراق من حوض الرافدين والاطراف المطلة عليه مبعثا لتداخل وتبادل سكاني واقتصادي واجتماعي وموقعا لعيش مشترك لاقوام واديان وطوائف متنوعة,
وقد ساعد الدين الاسلامي لفترة طويلة في تامين ضوابط العيش المشترك التي تمثلت في احترام تنوع الثقافات والاديان والاجتهادات وتشجيع التبادل الاقتصادي والسكاني واحترام ادارة كل المجاميع الاجتماعية لشؤونها الخاصة بنفسها وعدم معالجة مشاكل هذا التنوع عن طريق القوة او الاكثرية العددية.
ورغم ان هذه الضوابط لا زالت سائدة في المجتمع ويعيشها شعبنا في حياته اليومية لكنها لم تنعكس في تنظيم الدولة الحديثة المنقولة عن الغرب وبالاخص فرنسا وبريطانيا اللتان رفضتا طويلا اي شكل فيديرالي او لامركزي لتنظيم الدولة. ان التنوع القومي او الثقافي لم يكن يوما سببا في تقسيم الدولة الحديثة الى دويلات ولكن الاضطهاد القومي وغياب حقوق المواطنين كان على الدوام سببا في خلخلة الوحدة الوطنية في اية دولة.
ان كون العراق بلدا عربيا ،اي ان تاريخه ومستقبله ومصيره مرتبط بتاريخ ومستقبل ومصير البلدان العربية الاخرى ، لن يمنع الاكراد والقوميات الاخرى في العراق من التمتع بحقوقهم القومية.كما ان تمتع الاكراد والقوميات الاخرى في العراق بحقوقهم القومية مهما كان الشكل الاداري الذي سيأخذه لن يمنع وحدة المصالح والمستقبل والمصير بين العراق والبلدان العربية الاخرى.
ولذلك فباعتقادنا ان تثبيت دعائم الوحدة الوطنية لا تعالج عن طريق اشخاص الذين يشاركون في الحكم ،على اهمية ذلك ، وانما تعالج عن طريق عكس الدولة المشتركة في تنظيمها ومؤسساتها وسياساتها ضوابط العيش المشترك. فكل ما هو خاص ومحلي ينبغي ان يدار من قبل سلطة ذاتية محلية وان كل ما هو عام ومشترك ينبغي ان يدار من قبل سلطة مركزية منتخبة على ان تمنع هذه السلطة المركزية دستوريا وعمليا من ان تكون ممثلة لطرف من الاطراف او منحازة الى احد الاطراف وان تكون هذه السلطة المركزية المنتخبة ديموقراطيا مجبرة على المساواة بين المواطنين وعلى احترام ضوابط العيش المشترك وفي مقدمتها عدم تدخل الدولة في امور الدين والمؤسسات الدينية وكل ما له علاقة بالفكر والضمير والحياة الخاصة.
اننا نعتقد بضرورة القيام باصلاح الدولة العراقية بعمق لتحقيق حكم محلي وذاتي في كل محافظات العراق انطلاقا من الوحدات الادارية القائمة لتأخذ هذه المحافظات المضمون الثقافي والسياسي والاداري بشكل ديموقراطي وعلى ان تظل السلطة المركزية المنتخبة هي الممثلة لكل سكان العراق في كل الشؤون المشتركة العامة وعلى ان لا تكون هذه السلطة المركزية المنتخبة اقتساما للسلطة من قبل الوحدات المحلية.
ان اساس وحدة الدولة هي حقوق المواطنة والعيش المشترك وفي مقدمتها ملكية كل سكان العراق لكل ثرواته اينما وجدت وحق كل سكان العراق بالتمتع بثمار هذه الثروات بشكل عادل ومتجانس ومتكافئ وحق كل سكان العراق مهما كانت اصولهم الاثنية او الدينية او الطائفية او السياسية في المشاركة في ادارة الشؤون العامة وحقهم في المساواة امام القانون ومؤسسات الدولة.
وبقدر ما نصر على ضرورة وجود السلطة المركزية المنتخبة ديموقراطيا لادارة الشؤون العامة المشتركة فاننا نعتقد ان الحكم الذاتي المحلي الديموقراطي في العصر الحديث ليس فقط يلبي ضوابط العيش المشترك في الدولة الحديثة وانما كذلك هو اساس دمقرطة الحياة اليومية المحلية وبالتالي دمقرطة الدولة ولان الحكم المحلي يخضع لمراقبة اجهزة الدولة ولقوانينها من جهة ولمراقبة الناخبين المباشرة من جهة اخرى فانه الاكفأ في رفع قدرة الدولة على مواكبة تطور المجتمع وحل مشاكل المواطنين وتربية الكادر الاداري المتمرس.وهو لذلك لا يضعف العمل المشترك وانما على العكس يعطيه زخما وحيوية.
واذا كان السلام مع الدول المجاورة وتثبيت دعائم الوحدة الوطنية هما الشرطان الاساسيان لمواجهة الصعوبات الاقتصادية والشروع في اعادة اعمار العراق فان اقامة دولة عصرية ديموقراطية هي السبيل الوحيد لتنفيذ هذه المهمات. فامام الصعوبات البالغة وقلة الموارد المتاحة ليس بالامكان تحقيق المهمات المطروحة على العراق عن طريق القسر والارهاب والانفراد في الراي والسلطة ودون مشاركة كل ابناء العراق في البحث والتقرير والتنفيذ فاما ان تكون الدولة دولة ديموقراطية واما ان تتفاقم المحنة ويزداد تعقد الصعوبات ويقضى على كل ما تبقى من دولة في العراق
ان الديموقراطية ليست تصفيقا في الشوارع وترديدا للاهازيج . انها حياة مدنية يقوم فيها المواطنون رجالا ونساء باقامة المؤسسات لادارة شؤونهم العامة. والديموقراطية هي ليست تزويقا اخلاقيا لنظام ما .انها تنظيم سياسي وظيفي للدولة ومؤسساتها.
اننا نهيب بكل السياسيين والمثقفين الوطنيين وكل ابناء العراق مهما كانت اصولهم الاثنية او الدينية او الطائفية, ومهما كانت انتماءاتهم السياسية او الايديولوجية سواء كانوا داخل اجهزة الدولة او خارجها سواء كانوا داخل او خارج العراق ان يفتحوا باب الحوار والبحث بعيدا عن الذاتية والنفعية وضيق الافق وشعارات الحرب الاهلية ولغتها ليشخصوا المصاعب والمشاكل وطرق التغلب عليها
ان العراق في محنة ولن ينقذه زعيم او قائد اومفكر او ثوري .ان من ينقذه هو مجموع ابناء العراق وطاقاتهم الخلاقة
عبدالاله البياتي
باريس 25/2/1999 - 5

نشر في جريدة الوفاق