المدخل | التعليق  الاسبوع  | الجديد في الاتجاهات  | افتتاحيات الصحف  | الاتصال بنا  | اشارات  | مقالات عبدالاله البياتي 

رسالة من خلاَن الوفا

الاخ الدكتور عبدالرحمن منيف المحترم
تحية اخوية وبعد
لانني قرأت رسالتك في القدس ولانني لم التق بك منذ 25 عاما ولانني لا اعرف عنوانك اكتب لك هذه الرسالة لاشكرك على تذكيرك العرب ،بشكرك هؤلاء الشرفاء ، ان عراقنا الحبيب في محنة وان ضمائر بعض العرب لم تهب لنجدته
وكان جميلا ان توقع رسالتك باسم الصامتين فالصامتون كثر وصمتهم بلاغة . وان كان اكثر الكلام تجارة فالصمت ادانة . والصمت حق تمايزا عن الابواق والازلام والمداحين.وبعض الصمت تقية فليس كل الناس سقراطا في بلدان يضيق قادتها بالتحليل العاقل والنصح المنزه والكلمة الحرة والراي المستقل. فقد منح الله القادة السيف والمال والشهرة وجعلهم يؤمنون انهم لوحدهم يملكون العلم والمعرفة والثقافة والرؤية ومعهم بدأ التاريخ وانتهى الاجتهاد والا فلماذا منحهم الله كل هذا السلطان! وكيف نريدهم ان يتقبلوا رأي من عاصر الاحداث وخبر السياسة وامتلك القدرة على التحليل والامساك باللحظة التاريخية؟ صمت مثل هؤلاء، امثالك، اجدى لعله يدفع عنهم ، على الاقل، الاذى ولعل غيرهم يكمل الطريق,
كان عمري بعمر هؤلاء الشباب الذين تظاهروا في بيروت وبيرزيت عندما سمعتكم تتحدثون،مستلهمين تراث الحوراني البرلماني في سوريا والتراث الديموقراطي العالمي ، عن ضرورة الديموقراطية في دولة الوحدة وضرورة بناء انظمة ديموقراطية. فقد كنت، انت وفيصل حبيب الخيزران وغسان شرارة وعبدالوهاب شميطلي ، اول من دق ناقوس الخطر معلنين ان اعتماد الانظمة العربية التقدمية على العسكر والاجهزة الامنية سيقود الى كارثة ثم تبعناكم ،هناء الشيباني و حبيب الدوري وانا مع اخرين ولا شك اخرين في اقطار اخرى.ولكن القوم لفظنا جميعا اذ لا شك اننا كنا نحلم فكل القائمين على امر القوم عندئذ كانوا يحلمون بالضبط بحكم العسكر والاجهزة الامنية ليشكلوا هم واجهتها التبريرية فكان لهم ما ارادوا وتتابعت الكوراث.
كان عمري عندئذ بعمر هؤلاء الشباب الذين تظاهروا في بيروت وبيرزيت.وهذا هو وجه التشابه الوحيد بيني وبينهم فكل شئ قد تغير منذ اربعين سنة .المنظمات والتنظيمات والانظمة ، والابواق والازلام والمداحون، والحالمون والصامتون والهامسون.ولكن هناك شيئا واحدالم يتغير هو غياب الديموقراطية في بلداننا. انني ارى في تظاهرات هؤلاء الشباب،ولعلي احلم، ميلاد نهوض ديموقراطي لا اعتقد انه سيتوقف فقد خرج الشباب عن قيود الانظمة والايديولوجيات والمنظمات ليمارسوا الفعل في الواقع بانفسهم .وهم، كما ارى ،يعبرون عن تطلعات ابناء ما نسميه الطبقة المتوسطة التي لم تعد تطيق ابعادها عن تسيير شؤون الدولة والمجتمع من قبل مراكز القوة والمال ،والتي لم تعد تطيق،وهي التي تحمل التراث والتكنيك والحداثة وفصل الدين عن الدولة ومساواة الرجل والمراة، كل هذه القيود الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تتحكم بكل حياتها ،حتى الخاصة منها ،والتي لم تعد تشتري ما يباع لها من قرارات وخطابات وسياسات فارغة فكيف تقبل التفريط بحقوق الوطن والامة!
والطبقة المتوسطة المتعلمة في بلداننا اصبحت من السعة والثقل الاجتماعي بحيث ان لا احد يستطيع تسيير شؤون الدولة بدونها وهي تملك سلاحا امضى من الدبابات والطائرات: الاحتجاج. الاحتجاج بكل اشكاله وهو امضى لسهولة الركون اليه مع الحفاظ على الصلة العضوية بالمجتمع ومسيرته. انني ارى ان الديموقراطية قد اصبحت اليوم ضرورة اجتماعية وسياسية وبرنامجا قابلا للتطبيق ولم تعد كما كانت في شبابنا حلما بعيد المنال. فهل ما ارى هو لحظة تاريخية ام هو سراب ناتج عن البعد عن الوطن؟ اذا كان ما نراه هو بداية مرحلة جديدة تبشر بالخير فحبذا لو ان كل الصامتين العارفين الشيوخ خرجوا عن صمتهم ليدعموا ويعينوا الشباب. وليس مطلوبا منهم ان يشرحوا طبيعة الانظمة فبذلك لن يضيفوا شيئا لان الناس في كل قطر تعرف انظمتها احسن من مثقفيها وليس مطلوبا منهم ان يبنوا الاحزاب والمنظمات والثورات فقد يخرج ذلك عن طاقاتهم وامكانياتهم وليس مطلوبا منهم فضح القهر والظلم فليتركوا ذلك للفنانين والادباء ،وانت منهم ،فهم يصورون ذلك احسن تصوير وانما عليهم، كما اتمنى، ان يلتفتوا الى الوراء مرات ومرات ليكشفوا مواضع الخلل هنا وهناك في الفكر السياسي العربي.فهذه المواضع قادت ،رغم عطاء الاجيال، الى محن وماسي. ومن الخلل هذه القدرة العجيبة للفكر السياسي العربي على تحويل كل قضية واقعية الى تجريد ثم الى ايمان وتقديس.انه فكر ،واعذرني لتعميمي ، يبحث عن تبريره لا في التاريخ الواقعي وانما في تاريخ الافكار والنصوص .وطريقته في التحليل والطرح تحوٌل كل المقولات الى مقولات تجريدية مقدسة.لا شك ان سبب ذلك هو عصر الظلمة والتعاويذ الذي قطعنا عن الفكر المدني العربي والاسلامي ولا شك ان سبب ذلك هو عدم تفاعلنا الحي مع الفكر العالمي المعاصر وانما تبنينا لنتائجه فحسب .ولذلك لا عجب ان يعالج الفكر عندنا كل النظريات وكأنها تعاويذ وطلاسم ومجموعة من النصوص المقدسة ولا عجب ان يتحول ما يخص البشر الواقعيين ،الاعلان العالمي لحقوق الانسان ،الىوصفة سحرية .ولاعجب ان يمارس الفكر السياسي الديني السياسة كمجموعة من الفتاوي وهكذا حتى الديموقراطية اصبحت عندنا امرا سيحقق الاعجاب والايمان بها سعادة البشر على الارض بدل ان تكون مشروع عمل وفعل.
حبذا لو ننزع عن الفكر السياسي ،كل فكر سياسي ،صفة القدسية والا لن نستطيع ابدا بناء دولة ديموقراطية.ففي الدولة ليس هناك امرا مقدسا .انها مجموع المؤسسات والاجراءات والقوانين التي تنظم العيش المشترك لبشر واقعيين وهي من صنع بشر واقعيين.والدولة الديموقراطية من جهتها هي دولة تقوم على المساواة بين المواطنين بدون تمييز وعلى ادارتهم لشؤون الدولة والمجتمع وحياتهم الخاصة بانفسهم وبحرية عن طريق التصويت والترشيح والانتخاب .هي ليست احلاما لمثقفين متنورين ولا بؤر ثورية لابطال منزهين وانما تنظيما وظيفيا للجانب السياسي من حياة المجتمع .
كي نبتعد عن الفكر الطلسمي،علينا ان نناقش مسائل الديموقراطية لا كاخلاق وذاتيات وسلوك شخصي وانما كمؤسسات ومشاريع قوانين لتنظيم الدولة والحياة في المجتمع وخدمة الصالح العام.
وبعض الخلل هذا الخلط المضلل في تحديد موضوع السياسة والذي قد يكون نابعا عن عجز الفكر السياسي العربي.برايي ان موضوع السياسة هو الامر العام ولذلك فان بحثه الاساسي هو الدولة ومهماتها الاساسية التي هي ادارة المال العام وتشريع القوانين وتنفيذها لخدمة الصالح العام .ان موضوعها ليس ما هو ذاتي او شخصي اوخاص لذلك فلا علاقة لها بشكل مباشر بضمير البشر واخلاقهم الفردية وحياتهم الخاصة فهي تترك ذلك لرجال الدين والفنانين والادباء والفلاسفة وكل المهتمين بقيم الانسان وضميره الداخلي اما ما هو سياسي فانه يعلن عن نفسه ويتحقق عن طريق مشاريع القوانين والبرامج والاجراءات التي تبني مؤسسات وتنظيمات الدولة وقوانينها وسياساتها.فالدولة ليست سلطنة سواء كانت سلطنة فرد او مجموعة او طبقة.انها الوعاء الذي يمارس فيه البشر حياتهم السياسية العامة المشتركة.والسلطة ليست تفويضا شخصيا وانما تكليفا لمدة محددة لتنفيذ سياسة محددة. فاذا استطاع الفكر السياسي العربي ان يعالج موضوع السياسة بوضوح فانه سيتخلص من كل هذه الضبابية والقصور والعموميات والنزعات الذاتية وضيق الافق التي تحوله الى اطروحات لا تقبل الجدل والبحث العقلاني والى قضية اخلاق فردية وايمان ومرجعيات مقدسة لا تستطيع التعايش مع الاخر ناهيك عن النقيض.
ولا اخفي عليك اني قد هجرت منذ زمن بعيد فكرة الطليعة التي حملت لبلداننا اعمق الماسي .الكل عندنا طليعة لامر ما.هذه العصبة طليعة للامة وتلك طليعة للطبقة والاخرى طليعة للاسلام بل وان هناك طليعة للتمدن.انا لا انكر ان من حق اية مجموعة ان تطلق على نفسها صفة الطليعة بل واعتقد ان العمل السياسي يتطلب دائما اناسا يقومون ببلورة الراي العام سواء اكانوا افرادا او تنظيمات .ولكن خطورة فكرة الطليعة هي ان الطليعة لا تستمد شرعيتها الا من نفسها .اما في الدولة الديوقراطية ،فمع ضمان تكافل الاجيال وتضامن مناطق البلد وتسامح الاديان والطوائف واحترام الاكثرية لحقوق الاقلية في التفكير والتعبير والتنظيم والتمثيل في مؤسسات الدولة ،فان مصدر الشرعية الوحيدة هي ارادة المواطنين،رجالا ونساء ، المعبر عنها عن طريق التصويت والترشيح والانتخاب الدوري .و لا يمكن ان تكون هناك طليعة تتمتع بامتيازات سياسية دائمية لان ذلك يتنافى مع المساواة بين المواطنين ويتناقض مع الشرعية الديموقراطية.
ان فكرة الطليعة السائدة في بلداننا تغني اصحابها عن التحقق من ارادة المواطنين فالطلائع تعتقد انها تعرف مصلحة الناس اكثر من الناس وتدعي انها تمثل ارادة الشعب دون ان تكلف نفسها عناء البحث عن كيفية سؤال المواطنين عن ارادتهم وكيفية منع التسلط على هذه الارادة وكيفية تغيير ارادة الحكومة او اجراءاتها ان تغيرت ارادتهم .وهي تختصر ارادة المواطنين في المجموعة الطليعية وتختصر المجموعة الطليعية في بعض القادة. وبعض الطلائع تدعي انها تحمل تفويضا مقدسا لا دليل لنا عليه والبعض الاخر يستند الى وسائل قمع لا نستطيع ردها وكلاهما يعتقد ان الشرعية تستمد من الوصول الى السلطة مهما كانت وسيلة الوصول .وهي ان وصلت الى السلطة فانها تعلن،لقطع الطريق على الاخرين، انها لن تخضع الا لارادتها وان بقائها في السلطة هو امر خالد وان شرعية قراراتها واجراءاتها وقوانينها ينبع من هذا البقاء.ولا عجب بعد ذلك ان يتم الطلاق بين الدولة والمجتمع وان تتحول السلطة الى متعة ذاتية لا تراثا سياسيا للمجتمع .
واهم ما يفوت هذه الطلائع هو ان المجتمع جسم حي تنمو فيه القوى وتتغير سواء كانت هذه القوى ثقافية اواجتماعية اواقتصادية اوسياسية واي سد للطريق امام تطور هذه القوى في داخل الدولة هو اقفال للطريق امام السلطة ذاتها ولذلك ينتهي حكم الطليعة اللاديموقراطي على الدوام الى حكم عصبة من الافراد ينتظر الجميع رحيلهم فعملها السياسي لم يكن سوى عنف وتسلط ، وفي بعض الاحيان لصوصية ، لا يتيح امام رافضيه الا اللجوء الى العنف المضاد.فهل ستنجح الطبقة المتوسطة في تغيير كل هذا؟ ان خروج الشيوخ عن صمتهم حق ان كان لدفع ضرر او تجنيب خطأ .وبعض ما تراكم عند الصامتين من معارف خلال اخفاقات ونجاحات الامة قد ينفع الشباب اليوم.
والى ان نلتقي تقبل تحياتي وتقديري
عبدالاله البياتي

لم تنشر هذه الرسالة رغم ارسالها الى الصحف